27 - 09 - 2024

مؤشرات | سياسات زراعية على حساب محاصيل تاريخية.. القصب مثالًا

مؤشرات | سياسات زراعية على حساب محاصيل تاريخية.. القصب مثالًا

انتقد متخصصون وأبحاث العديد من السياسيات الزراعية التي تصر الحكومات المتتالية على تنفيذها والتي تسببت في أزمات غذائية ونقص شديد في العديد من السلع، وهو ما أدى إلى اللجوء للاستيراد على حساب الإنتاج الوطني، بل وصل إلى التخلي عن محاصيل محلية تاريخية، لصالح محاصيل مستحدثة، وهو ما أدى إلى تحميل الدولة فواتير عالية من النقد الأجنبي والذي يمثل عصب الأزمة الاقتصادية أو قل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الدولة.

من بين تلك السياسات التي اتبعتها الحكومات، التخلي تدريجيا عن محصول فصب السكر المكون الرئيسي والتاريخي لإنتاج السكر في البلاد، مع الاستبدال بمحصول البنجر، دون مراعاة للتوازن بين ما هو أساسي، وآخر فرعي، وكانت النتيجة نقصا شديدا في السكر، يظهر من حين إلى آخر، والنتيجة ارتفاع في الأسعار وصل إلى بعض الأوقات إلى 50 جنيها.

بل الغريب أن يخرج مسؤول كبير مثل رئيس الوزراء، ويلقي بالمسؤولية في مثل تلك الأزمة على المواطنين، واتهامهم بالإفراط في الاستهلاك، مما خلق الأزمة متناسيا أن السكر في الثقافة المصرية هو فاكهة الناس، والبعض يطلق عليه (بروتين الغلابة)، ودون أن يتطرق إلى أصل المشكلة، أو أساس مهم لها.

هذا ما انتهت إليه دراسة مهمة لموجز (عدسة) لمركز "حلول للسياسات البديلة" بالجامعة الأمريكية، والذي بين أن رئيس الحكومة تجاهل دور الحكومة في تقويض زراعة قصب السكر المتوطنة في الصعيد وتفضيل محصول وافد وأقل إنتاجية مثل بنجر السكر.

ولأن مصر لديها أهم مراكز بحثية في مجال الزراعة، ونظرا لأهمية قصب السكر اجتماعيًّا واقتصاديًّا لصعيد مصر، يجب على الحكومة تكييف زراعته في ظل التغير المناخي ليكون أكثر توفيرًا للمياه بدلًا من إهمال هذا المحصول واستبداله بآخر يتحكم فيه كبار المستثمرين.

كافة التقارير الدولية والمحيلة، تؤكد أن مصر بين مصاف الدول الأكثر إنتاجًا لقصب السكر من حيث الجودة وإنتاجية الفدان، لأنه من نباتات المناطق الحارة، كما يعد المحصول الاستوائي الأكثر كفاءة في تحويل أشعة الشمس إلى سكر، ويحقق أكبر إنتاجية للفدان من السعرات الحرارية.

والسؤال المهم.. هل نسينا أن قصب السكر يعتبر مصدر الدخل الأساسي لما يقارب 500 ألف أسرة تعمل في زراعته والصناعات المعتمدة عليه والتي تصل إلى 25 منتجًا مختلفًا، ويزرعه الفلاحون من المنيا إلى أسوان، وهذه أبعاد اقتصادية واجتماعية لملايين البشر على ضفاف النيل.

الملاحظة المهمة أنه وعلى الرغم من الزيادة التي شهدتها أسعار مدخلات الإنتاج في ظل التضخم، تذبذب سعر التوريد بالجنيه ولكن لم تشهد قيمته الحقيقية عند تحويلها بالدولار أية زيادة حقيقية بين 2015 و2024. مما يعتبر إهمالا من الدولة لقصب السكر في تأخير وتدني تسعيره للمزارعين، فسعر شراء المحصول والذي تسيطر عليه الحكومة يشكل محددًا رئيسيًّا لقدرة المزارعين على توفيره، خلافًا لتصريحات رئيس الوزراء الذي اعتبر الزيادة الأخيرة لسعر التوريد بالجنيه حلًّا لأزمة السكر.

المعضلة التي تحتاج إلى رؤية وسياسة زراعية واضحة، تتركز بالاعتدال في توجهات الدولة بإحلال زراعة القصب ببنجر السكر، بالرغم من ضعف إنتاجيته واحتياجه لخدمة شاقة ووقود خارجي وبذور مستوردة بخلاف قصب السكر.

ومن الأرقام المهمة التي تحتاج لدراسة أن إنتاج السكر من البنجر على حساب القصب من 45.5% في 2012 إلى 67.2% من الإجمالي في 2022، وانخفض توريد القصب لمصنع شركة السكر والصناعات التكاملية المصرية من 750 ألف طن عام 2020 إلى 10 آلاف طن في موسم 2024 ما تسبب في غلق المصنع.

ومن مخرجات الدراسة المهمة، وبحاجة لرد واضح، أن ما يجري من إهمال للقصب يمثل تخريبًا لزراعة متوطنة تخدم الاكتفاء الغذائي للبلاد، ولا تعتمد زراعة قصب السكر على البذور المستوردة كونه يزرع من سيقان النبات بشكل ملائم للبيئة وظروف المجتمعات المحليةـ بخلاف أن القصب هو المحصول المثالي للتنمية الاقتصادية لصعيد مصر، فزراعته غير كثيفة العمالة لأن سيقانه تزرع مرة واحدة وتنتج من 5 إلى 6 مرات، ما يجعله ملائمًا للتغيرات الاجتماعية للصعيد المتمثلة في هجرة العمالة الزراعية.

بل كان يجب على الحكومة رفع سعر التوريد للقصب بنسبة تساعد على تغطية تكاليف الزراعة من أجل حل أزمة شح السكر وضمان حياة كريمة للمزارعين، مع إعادة النظر في سياساتها الزراعية للمضي نحو نظام مستدام لإنتاج الغذاء، عبر الحفاظ على الزراعات المتوطنة وتطويرها، وعلى رأسها قصب السكر.

صحيح أن من مبررات الدولة أن بسبب محدودية الموارد المائية اتجهت الحكومة إلى إعادة النظر في زراعة عدد من المحاصيل الأكثر استهلاكًا للماء ومنها القصب والأرز، ولهذا تم تفضيل البنجر من منطلق توفير الموارد المائية، إلا أن الدراسات ترى أن القصب لا يبذر في المياه لأن المحصول الواحد يستغرق نموه 12 شهرًا، وبذلك لا يختلف استهلاكه للماء كثيرًا عن البنجر.

كما هناك ملاحظة مهمة أن الممارسات الزراعية تؤكد أن قرار الحكومة يرجع إلى توجيه الموارد المائية إلى الشركات الكبرى والأراضي المستصلحة على حساب توفيرها للفلاحين في أراضي الوادي والدلتا القديمة.

وأليس من الأولى - في ظل التخلي عن قصب السكر أو تقليل المساحات المزروعة رغم كونه محصولا متوطنا وملائما للظروف الاجتماعية والمناخية لصعيد مصر- أن تستثمر الحكومة في تطوير زراعته عن طريق استخدام تقنيات تقلل من أي هدر مائي وتوفير الميكنة اللازمة، بدلًا من التخلي عن المحصول وإهماله.

هل من مجيب يا سادة؟!
------------------------------
بقلم: محمود الحضري


مقالات اخرى للكاتب

مؤشرات | سياسات زراعية على حساب محاصيل تاريخية.. القصب مثالًا